المكتبة المقروءة : التفسير : سورة الفاتحة - سورة البقرة - المجلد الأول |
المكتبة المقروءة : التفسير : سورة الفاتحة - سورة البقرة - المجلد الأول تفسير سورة الفاتحة |
سورة الفاتحة سمِّيت بذلك؛ لأنه افتتح بها القرآن الكريم؛ وقد قيل: إنها أول سورة نزلت كاملة.. هذه السورة قال العلماء: إنها تشتمل على مجمل معاني القرآن في التوحيد، والأحكام، والجزاء، وطرق بني آدم، وغير ذلك؛ ولذلك سمِّيت "أم القرآن"(47)؛ والمرجع للشيء يسمى "أُمّاً".. وهذه السورة لها مميزات تتميّز بها عن غيرها؛ منها أنها ركن في الصلوات التي هي أفضل أركان الإسلام بعد الشهادتين: فلا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب؛ ومنها أنها رقية: إذا قرئ بها على المريض شُفي بإذن الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ( قال للذي قرأ على اللديغ، فبرئ: "وما يدريك أنها رقية"(48) .. وقد ابتدع بعض الناس اليوم في هذه السورة بدعة، فصاروا يختمون بها الدعاء، ويبتدئون بها الخُطب ويقرؤونها عند بعض المناسبات .، وهذا غلط: تجده مثلاً إذا دعا، ثم دعا قال لمن حوله: "الفاتحة"، يعني اقرؤوا الفاتحة؛ وبعض الناس يبتدئ بها في خطبه، أو في أحواله . وهذا أيضاً غلط؛ لأن العبادات مبناها على التوقيف، والاتِّباع.. القرآن (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم) التفسير:. قوله تعالى: { بسم الله الرحمن الرحيم }: الجار والمجرور متعلق بمحذوف؛ وهذا المحذوف يقَدَّر فعلاً متأخراً مناسباً؛ فإذا قلت: "باسم الله" وأنت تريد أن تأكل؛ تقدر الفعل: "باسم الله آكل".. قلنا: إنه يجب أن يكون متعلقاً بمحذوف؛ لأن الجار والمجرور معمولان؛ ولا بد لكل معمول من عامل.. وقدرناه متأخراً لفائدتين: الفائدة الأولى: التبرك بتقديم اسم الله عزّ وجل. والفائدة الثانية: الحصر؛ لأن تأخير العامل يفيد الحصر، كأنك تقول: لا آكل باسم أحد متبركاً به، ومستعيناً به، إلا باسم الله عزّ وجلّ. وقدرناه فعلاً؛ لأن الأصل في العمل الأفعال . وهذه يعرفها أهل النحو؛ ولهذا لا تعمل الأسماء إلا بشروط وقدرناه مناسباً؛ لأنه أدلّ على المقصود؛ ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم : "من لم يذبح فليذبح باسم الله"(49) . أو قال صلى الله عليه وسلم "على اسم الله"(50) : فخص الفعل.. و{ الله }: اسم الله رب العالمين لا يسمى به غيره؛ وهو أصل الأسماء؛ ولهذا تأتي الأسماء تابعة له.. و{ الرحمن } أي ذو الرحمة الواسعة؛ ولهذا جاء على وزن "فَعْلان" الذي يدل على السعة.. و{ الرحيم } أي الموصل للرحمة من يشاء من عباده؛ ولهذا جاءت على وزن "فعيل" الدال على وقوع الفعل فهنا رحمة هي صفته . هذه دل عليها { الرحمن }؛ ورحمة هي فعله . أي إيصال الرحمة إلى المرحوم . دلّ عليها { الرحيم }.. و{ الرحمن الرحيم }: اسمان من أسماء الله يدلان على الذات، وعلى صفة الرحمة، وعلى الأثر: أي الحكم الذي تقتضيه هذه الصفة.. والرحمة التي أثبتها الله لنفسه رحمة حقيقية دلّ عليها السمع، والعقل؛ أما السمع فهو ما جاء في الكتاب، والسنّة من إثبات الرحمة لله . وهو كثير جداً؛ وأما العقل: فكل ما حصل من نعمة، أو اندفع من نقمة فهو من آثار رحمة الله.. هذا وقد أنكر قوم وصف الله تعالى بالرحمة الحقيقية، وحرّفوها إلى الإنعام، أو إرادة الإنعام، زعماً منهم أن العقل يحيل وصف الله بذلك؛ قالوا: "لأن الرحمة انعطاف، ولين، وخضوع، ورقة؛ وهذا لا يليق بالله عزّ وجلّ"؛ والرد عليهم من وجهين:. الوجه الأول: منع أن يكون في الرحمة خضوع، وانكسار، ورقة؛ لأننا نجد من الملوك الأقوياء رحمة دون أن يكون منهم خضوع، ورقة، وانكسار.. الوجه الثاني: أنه لو كان هذا من لوازم الرحمة، ومقتضياتها فإنما هي رحمة المخلوق؛ أما رحمة الخالق سبحانه وتعالى فهي تليق بعظمته، وجلاله، وسلطانه؛ ولا تقتضي نقصاً بوجه من الوجوه.. ثم نقول: إن العقل يدل على ثبوت الرحمة الحقيقية لله عزّ وجلّ، فإن ما نشاهده في المخلوقات من الرحمة بَيْنها يدل على رحمة الله عزّ وجلّ؛ ولأن الرحمة كمال؛ والله أحق بالكمال؛ ثم إن ما نشاهده من الرحمة التي يختص الله بها . كإنزال المطر، وإزالة الجدب، وما أشبه ذلك . يدل على رحمة الله.. والعجب أن منكري وصف الله بالرحمة الحقيقية بحجة أن العقل لا يدل عليها، أو أنه يحيلها، قد أثبتوا لله إرادة حقيقية بحجة عقلية أخفى من الحجة العقلية على رحمة الله، حيث قالوا: إن تخصيص بعض المخلوقات بما تتميز به يدل عقلاً على الإرادة؛ ولا شك أن هذا صحيح؛ ولكنه بالنسبة لدلالة آثار الرحمة عليها أخفى بكثير؛ لأنه لا يتفطن له إلا أهل النباهة؛ وأما آثار الرحمة فيعرفه حتى العوام، فإنك لو سألت عامياً صباح ليلة المطر: "بِمَ مطرنا؟"، لقال: "بفضل الله، ورحمته".. مسألة: هل البسملة آية من الفاتحة؛ أو لا؟ في هذا خلاف بين العلماء؛ فمنهم من يقول: إنها آية من الفاتحة، ويقرأ بها جهراً في الصلاة الجهرية، ويرى أنها لا تصح إلا بقراءة البسملة؛ لأنها من الفاتحة؛ ومنهم من يقول: إنها ليست من الفاتحة؛ ولكنها آية مستقلة من كتاب الله؛ وهذا القول هو الحق؛ ودليل هذا: النص، وسياق السورة.. أما النص: فقد جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين: إذا قال: { الحمد لله رب العالمين } قال الله تعالى: حمدني عبدي؛ وإذا قال: { الرحمن الرحيم } قال الله تعالى: أثنى عليَّ عبدي؛ وإذا قال: { مالك يوم الدين } قال الله تعالى: مجّدني عبدي؛ وإذا قال: { إياك نعبد وإياك نستعين } قال الله تعالى: هذا بيني وبين عبدي نصفين؛ وإذا قال: { اهدنا الصراط المستقيم }... إلخ، قال الله تعالى: هذا لعبدي؛ ولعبدي ما سأل"(51) ؛ وهذا كالنص على أن البسملة ليست من الفاتحة؛ وفي الصحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "صلَّيت خلف النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر؛ فكانوا لا يذكرون { بسم الله الرحمن الرحيم } في أول قراءة، ولا في آخرها"(52) : والمراد لا يجهرون؛ والتمييز بينها وبين الفاتحة في الجهر وعدمه يدل على أنها ليست منها.. أما من جهة السياق من حيث المعنى: فالفاتحة سبع آيات بالاتفاق؛ وإذا أردت أن توزع سبع الآيات على موضوع السورة وجدت أن نصفها هو قوله تعالى: { إياك نعبد وإياك نستعين } وهي الآية التي قال الله فيها: "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين"؛ لأن { الحمد لله رب العالمين }: واحدة؛ { الرحمن الرحيم }: الثانية؛ { مالك يوم الدين }: الثالثة؛ وكلها حق لله عزّ وجلّ { إياك نعبد وإياك نستعين }: الرابعة . يعني الوسَط؛ وهي قسمان: قسم منها حق لله؛ وقسم حق للعبد؛ { اهدنا الصراط المستقيم } للعبد؛ { صراط الذين أنعمت عليهم } للعبد؛ { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } للعبد.. فتكون ثلاث آيات لله عزّ وجل وهي الثلاث الأولى؛ وثلاث آيات للعبد . وهي الثلاث الأخيرة؛ وواحدة بين العبد وربِّه . وهي الرابعة الوسطى.. ثم من جهة السياق من حيث اللفظ، فإذا قلنا: إن البسملة آية من الفاتحة لزم أن تكون الآية السابعة طويلة على قدر آيتين؛ ومن المعلوم أن تقارب الآية في الطول والقصر هو الأصل.. فالصواب الذي لا شك فيه أن البسملة ليست من الفاتحة . كما أن البسملة ليست من بقية السور.. القرآن )الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) التفسير:. قوله تعالى: { الحمد لله رب العالمين }: { الحمد } وصف المحمود بالكمال مع المحبة، والتعظيم؛ الكمال الذاتي، والوصفي، والفعلي؛ فهو كامل في ذاته، وصفاته، وأفعاله؛ ولا بد من قيد وهو "المحبة، والتعظيم" ؛ قال أهل العلم: "لأن مجرد وصفه بالكمال بدون محبة، ولا تعظيم: لا يسمى حمداً؛ وإنما يسمى مدحاً"؛ ولهذا يقع من إنسان لا يحب الممدوح؛ لكنه يريد أن ينال منه شيئاً؛ تجد بعض الشعراء يقف أمام الأمراء، ثم يأتي لهم بأوصاف عظيمة لا محبة فيهم؛ ولكن محبة في المال الذي يعطونه، أو خوفاً منهم؛ ولكن حمدنا لربنا عزّ وجلّ حمدَ محبةٍ، وتعظيمٍ؛ فلذلك صار لا بد من القيد في الحمد أنه وصف المحمود بالكمال مع المحبة، والتعظيم؛ و "أل" في { الحمد } للاستغراق: أي استغراق جميع المحامد.. وقوله تعالى: { لله }: اللام للاختصاص، والاستحقاق؛ و "الله" اسم ربنا عزّ وجلّ؛ لا يسمى به غيره؛ ومعناه: المألوه . أي المعبود حباً، وتعظيماً.. وقوله تعالى: { رب العالمين }؛ "الرب" : هو من اجتمع فيه ثلاثة أوصاف: الخلق، والملك، والتدبير؛ فهو الخالق المالك لكل شيء المدبر لجميع الأمور؛ و{ العالمين }: قال العلماء: كل ما سوى الله فهو من العالَم؛ وُصفوا بذلك؛ لأنهم عَلَم على خالقهم سبحانه وتعالى؛ ففي كل شيء من المخلوقات آية تدل على الخالق: على قدرته، وحكمته، ورحمته، وعزته، وغير ذلك من معاني ربوبيته.. الفوائد: .1 من فوائد الآية: إثبات الحمد الكامل لله عزّ وجلّ، وذلك من "أل" في قوله تعالى: { الحمد }؛ لأنها دالة على الاستغراق.. .2 ومنها: أن الله تعالى مستحق مختص بالحمد الكامل من جميع الوجوه؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أصابه ما يسره قال: "الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات" ؛ وإذا أصابه خلاف ذلك قال: "الحمد لله على كل حال"[53] .. .3 ومنها: تقديم وصف الله بالألوهية على وصفه بالربوبية؛ وهذا إما لأن "الله" هو الاسم العَلَم الخاص به، والذي تتبعه جميع الأسماء؛ وإما لأن الذين جاءتهم الرسل ينكرون الألوهية فقط.. .4 ومنها: عموم ربوبية الله تعالى لجميع العالم؛ لقوله تعالى:(العالمين.. ) القرآن (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) التفسير:. قوله تعالى: { الرحمن الرحيم }: { الرحمن } صفة للفظ الجلالة؛ و{ الرحيم } صفة أخرى؛ و{ الرحمن } هو ذو الرحمة الواسعة؛ و{ الرحيم } هو ذو الرحمة الواصلة؛ فـ{ الرحمن } وصفه؛ و{ الرحيم } فعله؛ ولو أنه جيء بـ "الرحمن" وحده، أو بـ "الرحيم" وحده لشمل الوصف، والفعل؛ لكن إذا اقترنا فُسِّر { الرحمن } بالوصف؛ و{ الرحيم } بالفعل.. الفوائد: .1 من فوائد الآية: إثبات هذين الاسمين الكريمين . { الرحمن الرحيم } لله عزّ وجلّ؛ وإثبات ما تضمناه من الرحمة التي هي الوصف، ومن الرحمة التي هي الفعل.. .2 ومنها: أن ربوبية الله عزّ وجلّ مبنية على الرحمة الواسعة للخلق الواصلة؛ لأنه تعالى لما قال: { رب العالمين } كأن سائلاً يسأل: "ما نوع هذه الربوبية؟ هل هي ربوبية أخذ، وانتقام؛ أو ربوبية رحمة، وإنعام؟" قال تعالى: { الرحمن الرحيم }.. القـرآن (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) التفسير: قوله تعالى: { مالك يوم الدين } صفة لـ{ الله }؛ و{ يوم الدين } هو يوم القيامة؛ و{ الدين } هنا بمعنى الجزاء؛ يعني أنه سبحانه وتعالى مالك لذلك اليوم الذي يجازى فيه الخلائق؛ فلا مالك غيره في ذلك اليوم؛ و "الدين" تارة يراد به الجزاء، كما في هذه الآية؛ وتارة يراد به العمل، كما في قوله تعالى: {لكم دينكم ولي دين} [الكافرون: 6] ، ويقال: "كما تدين تدان"، أي كما تعمل تُجازى.. وفي قوله تعالى: { مالك } قراءة سبعية: { مَلِك}، و "الملك" أخص من "المالك".. وفي الجمع بين القراءتين فائدة عظيمة؛ وهي أن ملكه جلّ وعلا ملك حقيقي؛ لأن مِن الخلق مَن يكون ملكاً، ولكن ليس بمالك: يسمى ملكاً اسماً وليس له من التدبير شيء؛ ومِن الناس مَن يكون مالكاً، ولا يكون ملكاً: كعامة الناس؛ ولكن الرب عزّ وجلّ مالكٌ ملِك.. الفوائد: .1 من فوائد الآية: إثبات ملك الله عزّ وجلّ، وملكوته يوم الدين؛ لأن في ذلك اليوم تتلاشى جميع الملكيات، والملوك.. فإن قال قائل: أليس مالك يوم الدين، والدنيا؟ فالجواب: بلى؛ لكن ظهور ملكوته، وملكه، وسلطانه، إنما يكون في ذلك اليوم؛ لأن الله تعالى ينادي: {لمن الملك اليوم} [غافر: 16] فلا يجيب أحد؛ فيقول تعالى: {لله الواحد القهار} [غافر: 16] ؛ في الدنيا يظهر ملوك؛ بل يظهر ملوك يعتقد شعوبهم أنه لا مالك إلا هم؛ فالشيوعيون مثلاً لا يرون أن هناك رباً للسموات، والأرض؛ يرون أن الحياة: أرحام تدفع، وأرض تبلع؛ وأن ربهم هو رئيسهم.. .2 ومن فوائد الآية: إثبات البعث، والجزاء؛ لقوله تعالى: ( مالك يوم الدين ) .3 ومنها: حث الإنسان على أن يعمل لذلك اليوم الذي يُدان فيه العاملون.. القـرآن )إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) التفسير: قوله تعالى: { إياك نعبد }؛ { إياك }: مفعول به مقدم؛ وعامله: { نعبد }؛ وقُدِّم على عامله لإفادة الحصر؛ فمعناه: لا نعبد إلا إياك؛ وكان منفصلاً لتعذر الوصل حينئذ؛ و{ نعبد } أي نتذلل لك أكمل ذلّ؛ ولهذا تجد المؤمنين يضعون أشرف ما في أجسامهم في موطئ الأقدام ذلاً لله عزّ وجلّ: يسجد على التراب؛ تمتلئ جبهته من التراب . كل هذا ذلاً لله؛ ولو أن إنساناً قال: "أنا أعطيك الدنيا كلها واسجد لي" ما وافق المؤمن أبداً؛ لأن هذا الذل لله عزّ وجلّ وحده.. و "العبادة" تتضمن فعل كل ما أمر الله به، وترك كل ما نهى الله عنه؛ لأن من لم يكن كذلك فليس بعابد: لو لم يفعل المأمور به لم يكن عابداً حقاً؛ ولو لم يترك المنهي عنه لم يكن عابداً حقاً؛ العبد: هو الذي يوافق المعبود في مراده الشرعي؛ فـ "العبادة" تستلزم أن يقوم الإنسان بكل ما أُمر به، وأن يترك كل ما نُهي عنه؛ ولا يمكن أن يكون قيامه هذا بغير معونة الله؛ ولهذا قال تعالى: { وإياك نستعين } أي لا نستعين إلا إياك على العبادة، وغيرها؛ و "الاستعانة" طلب العون؛ والله سبحانه وتعالى يجمع بين العبادة، والاستعانة، أو التوكل في مواطن عدة في القرآن الكريم؛ لأنه لا قيام بالعبادة على الوجه الأكمل إلا بمعونة الله، والتفويض إليه، والتوكل عليه.. الفوائد: .1 من فوائد الآية: إخلاص العبادة لله؛ لقوله تعالى: { إياك نعبد }؛ وجه الإخلاص: تقديم المعمول.. .2 ومنها: إخلاص الاستعانة بالله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: { وإياك نستعين }، حيث قدم المفعول.. فإن قال قائل: كيف يقال: إخلاص الاستعانة لله وقد جاء في قوله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى} [المائدة: 2] إثبات المعونة من غير الله عزّ وجلّ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تعين الرجل في دابته، فتحمله عليها، أو ترفع له عليها متاعه صدقة"؟(54) .. فالجواب: أن الاستعانة نوعان: استعانة تفويض؛ بمعنى أنك تعتمد على الله عزّ وجلّ، وتتبرأ من حولك، وقوتك؛ وهذا خاص بالله عزّ وجلّ؛ واستعانة بمعنى المشاركة فيما تريد أن تقوم به: فهذه جائزة إذا كان المستعان به حياً قادراً على الإعانة؛ لأنه ليس عبادة؛ ولهذا قال الله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى} [المائدة: 2 ) فإن قال قائل: وهل الاستعانة بالمخلوق جائزة في جميع الأحوال؟ فالجواب: لا؛ الاستعانة بالمخلوق إنما تجوز حيث كان المستعان به قادراً عليها؛ وأما إذا لم يكن قادراً فإنه لا يجوز أن تستعين به: كما لو استعان بصاحب قبر فهذا حرام؛ بل شرك أكبر؛ لأن صاحب القبر لا يغني عن نفسه شيئاً؛ فكيف يعينه!!! وكما لو استعان بغائب في أمر لا يقدر عليه، مثل أن يعتقد أن الوليّ الذي في شرق الدنيا يعينه على مهمته في بلده: فهذا أيضاً شرك أكبر؛ لأنه لا يقدر أن يعينه وهو هناك.. فإن قال قائل: هل يجوز أن يستعين المخلوقَ فيما تجوز استعانته به؟ فالجواب: الأولى أن لا يستعين بأحد إلا عند الحاجة، أو إذا علم أن صاحبه يُسَر بذلك، فيستعين به من أجل إدخال السرور عليه؛ وينبغي لمن طلبت منه الإعانة على غير الإثم والعدوان أن يستجيب لذلك.. القـرآن (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) التفسير: قوله تعالى: { اهدنا الصراط المستقيم }: { الصراط } فيه قراءتان: بالسين: {السراط} ، وبالصاد الخالصة: { الصراط }؛ والمراد بـ{ الصراط } الطريق؛ والمراد بـ "الهداية" هداية الإرشاد، وهداية التوفيق؛ فأنت بقولك: { اهدنا الصراط المستقيم } تسأل الله تعالى علماً نافعاً، وعملاً صالحاً؛ و{ المستقيم } أي الذي لا اعوجاج فيه.. الفوائد: .1 من فوائد الآية: لجوء الإنسان إلى الله عزّ وجلّ بعد استعانته به على العبادة أن يهديه الصراط المستقيم؛ لأنه لا بد في العبادة من إخلاص؛ يدل عليه قوله تعالى: { إياك نعبد }؛ ومن استعانة يتقوى بها على العبادة؛ يدل عليه قوله تعالى: { وإياك نستعين }؛ ومن اتباع للشريعة؛ يدل عليه قوله تعالى: { اهدنا الصراط المستقيم }؛ لأن { الصراط المستقيم } هو الشريعة التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم .2 ومن فوائد الآية: بلاغة القرآن، حيث حذف حرف الجر من { اهدنا }؛ والفائدة من ذلك: لأجل أن تتضمن طلب الهداية: التي هي هداية العلم، وهداية التوفيق؛ لأن الهداية تنقسم إلى قسمين: هداية علم، وإرشاد؛ وهداية توفيق، وعمل؛ فالأولى ليس فيها إلا مجرد الدلالة؛ والله عزّ وجلّ قد هدى بهذا المعنى جميع الناس، كما في قوله تعالى: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدًى للناس} [البقرة: 185] ؛ والثانية فيها التوفيق للهدى، واتباع الشريعة، كما في قوله تعالى: {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدًى للمتقين} [البقرة: 2] وهذه قد يحرمها بعض الناس، كما قال تعالى: {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى} [فصلت: 17] : {فهديناهم} أي بيّنّا لهم الحق، ودَلَلْناهم عليه؛ ولكنهم لم يوفقوا.. .3 ومن فوائد الآية: أن الصراط ينقسم إلى قسمين: مستقيم، ومعوج؛ فما كان موافقاً للحق فهو مستقيم، كما قال الله تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه} [الأنعام: 153] ؛ وما كان مخالفاً له فهو معوج.. القرآن )صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ) التفسير:. قوله تعالى: { صراط الذين أنعمت عليهم } عطف بيان لقوله تعالى: { الصراط المستقيم }؛ والذين أنعم الله عليهم هم المذكورون في قوله تعالى: {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً(النساء: 69) قوله تعالى: { غير المغضوب عليهم }: هم اليهود، وكل من علم بالحق ولم يعمل به.. قوله تعالى: { ولا الضالين }: هم النصارى قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وكل من عمل بغير الحق جاهلاً به.. وفي قوله تعالى: { عليهم } قراءتان سبعيتان: إحداهما ضم الهاء؛ والثانية كسرها؛ واعلم أن القراءة التي ليست في المصحف الذي بين أيدي الناس لا تنبغي القراءة بها عند العامة لوجوه ثلاثة:. الوجه الأول: أن العامة إذا رأوا هذا القرآن العظيم الذي قد ملأ قلوبهم تعظيمه، واحترامه إذا رأوه مرةً كذا، ومرة كذا تنزل منزلته عندهم؛ لأنهم عوام لا يُفرقون.. الوجه الثاني: أن القارئ يتهم بأنه لا يعرف؛ لأنه قرأ عند العامة بما لا يعرفونه؛ فيبقى هذا القارئ حديث العوام في مجالسهم.. الوجه الثالث: أنه إذا أحسن العامي الظن بهذا القارئ، وأن عنده علماً بما قرأ، فذهب يقلده، فربما يخطئ، ثم يقرأ القرآن لا على قراءة المصحف، ولا على قراءة التالي الذي قرأها . وهذه مفسدة.. ولهذا قال عليّ: "حدِّثوا الناس بما يعرفون؛ أتحبون أن يُكذب الله، ورسوله"(55) ، وقال ابن مسعود: "إنك لا تحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة"(56) ؛ وعمر بن الخطاب لما سمع هشام بن الحكم يقرأ آية لم يسمعها عمر على الوجه الذي قرأها هشام خاصمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهشام: "اقرأ" ، فلما قرأ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "هكذا أنزلت" ، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: "اقرأ" ، فلما قرأ قال النبي صلى الله عليه وسلم "هكذا أنزلت"(57) ؛ لأن القرآن أنزل على سبعة أحرف، فكان الناس يقرؤون بها حتى جمعها عثمان رضي الله عنه على حرف واحد حين تنازع الناس في هذه الأحرف، فخاف رضي الله عنه أن يشتد الخلاف، فجمعها في حرف واحد . وهو حرف قريش؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم الذي نزل عليه القرآن بُعث منهم؛ ونُسيَت الأحرف الأخرى؛ فإذا كان عمر رضي الله عنه فعل ما فعل بصحابي، فما بالك بعامي يسمعك تقرأ غير قراءة المصحف المعروف عنده! والحمد لله: ما دام العلماء متفقين على أنه لا يجب أن يقرأ الإنسان بكل قراءة، وأنه لو اقتصر على واحدة من القراءات فلا بأس؛ فدع الفتنة، وأسبابها.. الفوائد: .1 من فوائد الآيتين: ذكر التفصيل بعد الإجمال؛ لقوله تعالى: { اهدنا الصراط المستقيم }: وهذا مجمل؛ (صراط الذين أنعمت عليهم ): وهذا مفصل؛ لأن الإجمال، ثم التفصيل فيه فائدة: فإن النفس إذا جاء المجمل تترقب، وتتشوف للتفصيل، والبيان؛ فإذا جاء التفصيل ورد على نفس مستعدة لقبوله متشوفة إليه؛ ثم فيه فائدة ثانية هنا: وهو بيان أن الذين أنعم الله عليهم على الصراط المستقيم.. .2 ومنها: إسناد النعمة إلى الله تعالى وحده في هداية الذين أنعم عليهم؛ لأنها فضل محض من الله.. .3 ومنها: انقسام الناس إلى ثلاثة أقسام: قسم أنعم الله عليهم؛ وقسم مغضوب عليهم؛ وقسم ضالون؛ وقد سبق بيان هذه الأقسام.. وأسباب الخروج عن الصراط المستقيم: إما الجهل؛ أو العناد؛ والذين سببُ خروجهم العناد هم المغضوب عليهم . وعلى رأسهم اليهود؛ والآخرون الذين سبب خروجهم الجهل كل من لا يعلم الحق . وعلى رأسهم النصارى؛ وهذا بالنسبة لحالهم قبل البعثة . أعني النصارى؛ أما بعد البعثة فقد علموا الحق، وخالفوه؛ فصاروا هم، واليهود سواءً . كلهم مغضوب عليهم.. .4 ومن فوائد الآيتين: بلاغة القرآن، حيث جاء التعبير عن المغضوب عليهم باسم المفعول الدال على أن الغضب عليهم حاصل من الله تعالى، ومن أوليائه.. .5 ومنها: أنه يقدم الأشد، فالأشد؛ لأنه تعالى قدم المغضوب عليهم على الضالين؛ لأنهم أشد مخالفة للحق من الضالين؛ فإن المخالف عن علم يصعب رجوعه . بخلاف المخالف عن جهل.. وعلى كل حال السورة هذه عظيمة؛ ولا يمكن لا لي، ولا لغيري أن يحيط بمعانيها العظيمة؛ لكن هذا قطرة من بحر؛ ومن أراد التوسع في ذلك فعليه بكتاب "مدارج السالكين" لابن القيم رحمه الله.. (47) أخرجه البخاري في صحيحه ص61، كتاب الأذان، باب 104: القراءة في الفجر، حديث رقم 772؛ وأخرجه مسلم في صحيحه ص740 في كتاب الصلاة، باب 11: وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، حديث رقم 878 [38] 395؛ وأخرجه الترمذي في جامعه ص1968، كتاب تفسير القرآن، باب 15: ومن سورة الحجر، حديث رقم 3124، ولفظه: "الحمد لله أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني". (48) أخرجه البخاري في صحيحه ص177، كتاب الإجارة، باب 16: ما يعطى في الرقية على أحياء العرب بفاتحة الكتاب، حديث رقم 2276؛ وأخرجه مسلم في صحيحه ص1068، كتاب السلام، باب 23: جواز أخذ الأجرة على الرقية بالقرآن والأذكار، حديث رقم 5733 [65] 2201. (49) أخرجه البخاري في صحيحه ص77، كتاب العيدين، باب 23: كلام الإمام والناس في خطبة العيد، حديث رقم 985؛ وأخرجه مسلم في صحيحه ص1027، كتاب الأضاحي، باب 1: وقتها، حديث رقم 5064 [1] 1960. (50) أخرجه البخاري في صحيحه ص474، كتاب الذبائح والصيد، باب 17: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "فليذبح على اسم الله"، حديث رقم 5500؛ وأخرجه مسلم في صحيحه ص1027، كتاب الأضاحي، باب 1: وقتها، حديث رقم 5064 [2] 1960. (51) أخرجه مسلم في صحيحه ص740، كتاب الصلاة، باب 11: وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، حديث رقم 878 [38] 395. (52) أخرجه مسلم في صحيحه ص741، كتاب الصلاة، باب 13، حجة من قال: لا يجهر بالبسملة، حديث رقم 892 [52] 399. [53] أخرجه ابن ماجه في سننه ص 2703 كتاب الأدب باب 55 فضل الحامدين حديث رقم 2803 وأخرجه الحاكم في المستدرك 1/499 كتاب الدعاء وقال: هذا حديث صحيح الإسناد وأقره الذهبي وحسنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه 2/319 حديث رقم 3066. (54) أخرجه البخاري ص232، كتاب الجهاد، باب 72: فضل من حمل متاع صاحبه في السفر حديث رقم 2891؛ وأخرجه مسلم ص837، كتاب الزكاة، باب 16: بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف، حديث رقم 2335 [56] 1009، واللفظ لمسلم. (55) أخرجه البخاري ص14، كتاب العلم، باب 49: من خص بالعلم قوماً دون قوم كراهية أن لا يفهموا، رقم 127. (56) أخرجه مسلم ص675، مقدمة الكتاب، رقم 14. (57) أخرجه البخاري ص189، كتاب الخصومات، باب 4: كلام الخصوم بعضهم في بعض، حديث رقم 2419؛ وأخرجه مسلم ص805 – 806، كتاب صلاة المسافرين، كتاب فضائل القرآن وما يتعلق به، باب 48: بيان أن القرآن أنزل على سبعة أحرف وبيان معناها، حديث رقم 1899 [270] 818. |